فصل: سنة ثمان وتسعين ومائة وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة ثمان وتسعين ومائة وألف:

فيها في المحرم سافر مراد بك إلى منية بن خصيب مغضباً وجلس هناك. وفيه حضر إلى مصر محمد باشا والي مصر فأنزوله بقصر عبد الرحمن كتخدا بشاطئ النيل فأقام به يومين ثم عملوا له موكباً وطلع إلى القلعة من تحت الربع على الدرب الأحمر.
وفي منتصفه اتفق رأي إبراهيم بك والأمراء الذين معه على إرسال محمد أفندي البكري والشيخ أبي الأنوار شيخ السادات والشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهر إلى مراد بك ليأخذوا خاطره ويطلبوه للصلح مع خشادشينه، ويرجع إليهم ويقبلوا شروطه، ما عدا إخراج أحد من خشداشينهم. فلما سافروا إليه وواجهوه وكلموه في الصلح تعلل بأعذار وأخبر أنه لم يخرج من مصر إلا هروباً خوفاً على نفسه، فإنه تحقق عنده توافقهم على غدره، فإن ضمنتم وحلفتم لي بالأيمان أنه لا يحصل لي منهم ضرر وافقتكم على الصلح وإلا فدعوني بعيداً عنهم. فقالوا له: لسنا نطلع على القلوب حتى نحلف ونضمن، ولكن الذي نظنه ونعتقده عدم وقوع ذلك بينكم لأنكم أخوة ومقصودنا الراحة فيكم وبراحتكم ترتاح الناس وتأمن السبل، فأظهر الامتثال ووعد بالحضور بعد أيام، وقال لهم: إذا وصلتم إلى بني سويف ترسلون لي عثمان بك الشرقاوي وأيوب بك الدفتردار لأشترك عليهم شروطي فإن قبلوها توجهت معهم وإلا عرفت خلاصي معهم. وانفصلوا عنه على ذلك وودعوه وسافروا وحضروا إلى مصر في ليلة الجمعة ثالث عشرين شهر صفر.
وفي ذلك اليوم وصل الحجاج إلى مصر ودخل أمير الحج مصطفى بك بالمحمل في يوم الأحد.
وفي يوم السب مستهل ربيع الأول، خرج الأمراء إلى ناحية معادي الخبير وحضر مراد بك إلى بر الجيزة وصحبته جمع كبير من الغز والأجناد والعربان والغوغاء من أهل الصعيد والهواراة، ونصبوا خيامهم ووطاقهم قبالتهم في البر الآخر، فأرسل إليه إبراهيم بك عبد الرحمن بك عثمان وسليمان بك الشابوري وآخرين في مركب، فلما عدوا إليه لم يأذن لهم في مقابلته وطردهم، ونزل أيضاً كتخدا الباشا وصحبته إسمعيل أفندي الخلوتي في مراكب أخرى ليتوجهوا إليه أيضاً لجريان الصلح، فلما توسطوا البحر ووافق رجوع الأولين، ضربوا عليهم بالمدافع فكادت تغرق بهم السفن، ورجعوا وهم لا يصدقون بالنجاة. فلما رأى ذلك إبراهيم بك ونظر امتناعه عن الصلح وضربه بالمدافع أمر هو الآخر بضرب المدافع عليهم نظير فعلهم. وكثر الرمي بينهم من الجهتين على بعضهم البعض، وامتنع كل من الفريقين عن التعدية إلى الجهة الأخرى، وحجزوا المعادي من الطرفين. واستمر الحال بينهم على ذلك من أول الشهر إلى عشرين منه، واشتد الكرب والضنك على الناس وأهل البلاد، وانقطعت الطرق القبلية والبحرية براً وبحراً، وكثر تعدي المفسدين وغلت الأسعار وشح وجود الغلال وزادت أسعارها. وفي تلك المدة كثر عبث المفسدين وأفشح جماعة مراد بك في النهب والسلب في بر الجيزة وأكلوا الزروعات، ولم يتركوا على وجه الأرض عوداً أخضر، وعين لقبض الأموال من الجهات وغرامات الفلاحين، وظن الناس حصول الظفر لمراد بك، واشتد خوف الأمراء بمصر منه. وتحدث الناس بعزم إبراهيم بك على الهروب، فلما كان ليلة الخميس المذكور أرسل إبراهيم بك المذكور خمسة من الصناجق، وهم سليمان بك الأغا وسليمان أبو نبوت وعثمان بك الأشقر وإبراهيم بك الوالي وأيوب بك، فعدوا إلى البر الآخر بالقرب من انبابة ليلاًوساروا مشاة فصادفوا طابوراً فضربوا عليهم بالبندق فانهزموا منهم، وملكوا مكانهم وذلك بالقرب من بولاق التكرور، كل ذلك والرمي بالمدافع متصل من عرضي إبراهيم بك. ثم عدى خلفهم جماعة أخرى ومعهم مدفعان وتقدموا قليلاً من عرضي مراد بك وضربوا على العرضي بالمدفعين، فلم يجبهم أحداً، فباتوا على ذلك وهم على غاية من الحذر والخوف. وتتابع بهم طوائفه وخيولهم، فلما ظهر نور النهار نظروا فوجدوا العرضي خالياً وليس به أحد، وارتحل مراد بك ليلاً وترك بعض أثقاله ومدافعه فذهبوا إلى العرضي وأخذوا ما وجدوه وجلسوا مكانه، ونهب أوباشه المراكب التي كانت محجوزة للناس. وعدى إبراهيم بك وتتابعوا في التعدية، وركبوا خلفهم إلى الشيمي فلم يجدوا أحداً، فأقاموا هناك السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، ورجع إبراهيم بك وبقية الأمراء إلى مصر، ودخلوا بيوتهم. وانقضت هذه الفتنة الكذابة على غير طائل، ولم يقع بينهم مصاف ولا مقاتلة، وهرب مراد بك وذهب بمن معه يهلكون الزرع حصاداً ويسعون في الأرض فساداً.
وفي أواخر شهر جمادى الأولى اتفق رأي إبراهيم بك على طلب الصلح مع مراد بك فسافر لذلك لاجين بك وعلي أغا كتخدا جاووجان، وسبب ذلك أن عثمان بك الشرقاوي وأيوب بك ومصطفى بك وسليمان بك وإبراهيم بك الوالي تحزبوا مع بعضهم وأخذوا ينقضون على إبراهيم بك الكبير، واستخفوا بشأنه وقعدوا له كل مرصد، وتخيل منهم وتحرز، وجرت مشاجرة بين أيوب بك وعلي أغا كتخدا جاوجان بحضرة إبراهيم بك، وسبه وشتمه وأمشك عمامته وحل قولانه وقال له: ليس هذا المنصب مخلداً عليك، فاغتاظ إبراهيم بك لذلك وكتمه في نفسه وعز علي علي أغا لأنه كان بينه وبين مراد بك، فاجتمع إليه الأمراء وتكلموا معه فقال: نصطلح مع أخينا أولى من التشاحن ونزيل الغل من بيننا لأجل راحتنا وراحة الناس ويكون كواحد منا وإن حصل منه خلل أكون أنا وأنتم عليه. وتحالفوا على ذلك وسافر لاجين بك وعلي أغا، وبعد أيام حضر حسن كتخدا الجريان كتخدا مراد بك إلى مصر واجتمع بإبراهيم بك ورجع ثانياً وأرسل إبراهيم بك صحبته ولده مرزوق بك طفلاً صغيراً ومعه الدادة والمرضعة، فلما وصلوا إلى مراد بك أجاب بالصلح وقدم لمرزوق بك هدية وتقادم ومن جملتها بقرة ولابنتها رأسان.
وفي عاشر رجب حضر مرزوق بك وصحبته حسن كتخدا الجربان فأوصله إلى أبيه ورجع ثانياً إلى مراد بك وشاع الخبر بقدوم مراد بك، وعمل مصطفى بك وليمة وعزم من بصحبته وأحضر لهم آلات الطرب، واستمروا على ذلك إلى آخر النهار.
وفي ثاني يوم اجتمعوا عند إبراهيم بك وقالوا له: كيف يكون قدوم مراد بك ولعله لا يستقيم حاله معنا، فقال لهم: حتى يأتي، فإن استقام معنا فيها وإلا أكون أنا وأنتم عليه. فتحالفوا وتعاهدوا وأكدوا المواثيق. فلما كان يوم الجمعة وصل مراد بك إلى غمازة فركب إبراهيم بك على حين غفلة وقت القائلة في جماعته وطائفته وخرج إلى ناحية البساتين ورجع من الليل وطلع إلى القلعة وملك الأبواب ومدرسة السلطان حسن والرميلة والصليبة والتبانة، وأرسل إلى الأمراء الخمسة يأمرهم بالخروج من مصر، وعين لهم أماكن يذهبون إليها، فمنهم من يذهب إلى دمياط ومنهم من يذهب إلى المنصورة وفارسكور، فامتنعوا من الخروج واتفقوا على الكرنكة والخلاف، ثم لم يجدوا لهم خلاصاً بسبب أن إبراهيم بك ملك القلعة وجهاتها ومراد بك واصل يوم تاريخه وصحبته السواد الأعظم من العساكر والعربان، ثم إنهم ركبوا وخرجوا بجمعيتهم إلى ناحية القليوبية ووصل مراد بك لزيارة الإمام الشافعي، فعندما بلغه خبر خروجهم ذهب من فوره من خلف القلعة ونزل على الصحراء وأسرع في السير حتى وصل إلى قناطر أبي المنجا، ونزل هناك، وأرسل خلفهم جماعة فلحقوهم عند شبراشهاب، وأدركهم مراد بك والتطموا معهم، فتقنطر مراد بك بفرسه فلحقوه وأركبوه غيره، فعند ذلك ولى راجعاً وانجرح بينهم جماعة قلائل، وأصيب سليمان بك برصاصة نفذت من كتفه ولم يمت، ورجع مراد بك ومن معه إلى مصر على غير طائل، وذهب الأمراء الخمسة المذكورون وعدوا على وردان، وكان بصحبتهم رجل من كبار العرب يقال له طرهونه يدلهم على الطريق الموصلة إلى جهة قبلي فسار بهم في طريق مقفرة ليس بها ماء ولا حشيش يوماً وليلة حتى كادوا يهلكون من العطش، وتأخر عنهم أناس من طوائفهم وانقطعوا عنهم شيئاً فشيئاً إلى أن وصلوا إلى ناحية سقارة، فرأوا أنفسهم بالقرب من الأهرام فضاق خناقهم وظنوا الوقوع، فأحضروا الهجن وأرادوا الركوب عليها والهروب ويتركوا أثقالهم، فقامت عليهم طوائفهم وقالوا لهم: كيف تذهبون وتتركونا مشتتين. وصار كل من قدر على خطف شيء أخذه وهرب، فسكنوا عن الركوب وانتقلوا من مكانهم إلى مكان آخر. وفي وقت الكبكبة ركب مملوك من مماليكهم وحضر إلى مراد بك وكان بالروضة، فأعلمه الخبر، فأرسل جماعة إلى الموضع الذي ذكره له فلم يجدوا أحداً، فرجعوا واغتم أهل مصر لذهابهم إلى جهة قبلي، لما يترتب على ذلك من التعب وقطع الجالب مع وجود القحط والغلاء. وبات الناس في غم شديد. فلما طلع نهار يوم الأربعاء حادي عشرين رجب شاع الخبر بالقبض عليهم، وكان من أمرهم أنهم لما وصلوا إلى ناحية الأهرام ووجدوا أنفسهم مقابلين البلد أحضروا الدليل وقالوا له: انظر لنا طريقاً تسلك منه، فركب لينظر في الطريق وذهب إلى مراد بك وأخبره بمكانهم، فأرسل لهم جماعة، فلما نظروهم مقبلين عليهم ركبوا الهجن وتركوا أثقالهم وولوا هاربين، وكانوا كمنوا لهم كميناً، فخرج عليهم ذلك الكمين ومسكوا بزمامهم من غير رفع سلاح ولا قتال، وحضروا بهم إلى مراد بك بجزيرة الذهب فباتوا عنده، ولما أصبح النهار أحضر لهم مراد بك بجزيرة الذهب فباتوا عنده، ولما أصبح النهار أحضر لهم مراد بك مراكب وأنزل كل أمير في مركب وصحبته خمسة مماليك وبعض خدام، وسافروا إلى جهة بحري، فذهبوا بعثمان بك وأيوب بك إلى المنصورة ومصطفى بك إلى فارسكور وإبراهيم بك الوالي إلى طندتا، وأما سليمان بك فاستمر ببولاق التكرور حتى برأ جرحه.
وفي منتصف شهر رمضان، اتفق الأمراء المنفيون على الهروب إلى قبلي فأرسلوا إلى إبراهيم بك الوالي ليأتي إليهم من طندتا وكذلك إلى مصطفى بك من فارسكور، وتواعدوا على يوم معلوم بينهم، فحضر إبراهيم بك إلى عثمان بك وأيوب بك خفية في المنصورة، وأما مصطفى بك فإنه نزل في المراكب وعدى إلى البر الشرقي بعد الغروب، وركب وسافر فركب خلفه رجل يسمى طه شيخ فارسكور، وكان بينه وبين مصطفى بك خرازة وأخذ صحبته رجلاً يسمى الأشقر في نحو ثلثمائة فارس، وعدوا خلفه فحلقوه آخر الليل والطريق ضيقة بين البحر والأرز المزروع، فلم يمكنهم الهروب ولا القتال. فأراد الصنجق أن يذهب بمفرده فدخل في الأرز بفرسه فانغرز في الطين فقبضوا عليه هو وجماعته، فعروهم وأخذوا ما كان معهم وساقوهم مشاة إلى البحر وأنزلوهم المراكب وردوهم إلى مكانهم، محتفظين عليهم. وأرسلوا الخبر إلى مصر بذلك. وأما الجماعة الذين في المنصورة فإنهم انتظروا مصطفى بك في الميعاد فلم يأتهم ووصلهم الخبر بما وقع له، فركب عثمان بك وإبراهيم بك وساروا وتخلف أيوب بك المنصورة، فلما قربوا من مصر سبقتهم الرسل إلى سليمان بك فركب من الجيزة وذهب إليهما وذهبوا إلى قبلي، وأرسل مراد بك محمد كاشف الألفي وأيوب كاشف، فأخذا مصطفى بك من فارسكور وتوجها به إلى ثغر سكندرية وسجنوه بالبرج الكبير. وعرف من أجل ذلك بالإسكندراني. وأحضروا أيوب بك إلى مصر وأسكنوه في بيت صغير، وبعد أيام ردوه إلى بيته الكبير وردوا له الصنجقية أيضاً في منتصف شوال.
وفي يوم الاثنين سادس شهر شوال الموافق التاسع عشر مسرى القبطي، كان وفاء النيل المبارك، ونزل الباشا يوم الثلاثاء في عربة وكسر السد على العادة.
وفي يوم الاثنين حادي عشرين شوال، كان خروج المحمل صحبة أمير الحاج مصطفى بك الكبير في موكب حقير جداً بالنسبة للمواكب المتقدمة، ثم ذهب إلى البركة في يوم الخميس وقد كان تأخر له مبلغ من مال الصرة وخلافها، فطلب ذلك من إبراهيم بك، فأحاله على مراد بك من الميري الذي طرفه وطرف أتباعه، وأحال عليه أمير الحاج وركب من البركة راجعاً إلى مصر وتركه وإياه، فلم يسع مراد بك غلا الدفع وتشهيل الحج وعاد إلى مصر وخرج إلى قصره بالروضة، وأرسل إلى الجماعة الذين بالوجه القبلي، فلما علم إبراهيم بك بذلك أرسل إليه يستعطفه وترددت بينهما الرسل من العصر إلى بعد العشاء، ونظر إبراهيم بك فلم يجد عنده أحداً من خشداشينه. واجتمه وأكلهم على مراد بك، فضاق صدره وركب إلى الرميلة فوقف بها ساعة حتى أرسل الحملة صحبة عثمان بك الأشقر وعلي بك أباظة، وصبر حتى ساروا وتقدموا عليه مسافة ثم سار نحو الجبل وذهب إلى قبلي، وصحبته علي أغا كتخدا الجاويشية وعلي أغا مستحفظان والمحتسب وصناجقه الأربعة، فلما بلغ مراد بك ركوبه وذهابه ركب خلفهم حصة من الليل ثم رجع إلى مصر وأصبح منفرداً بها، وقلد قائد أغا أغات مستحفظان وصالح أغا الوالي القديم وجعله كتخدا الجاويشية وحسن أغا كتخدا ومصطفى بك محتسب، وأرسل إلى محمد كاشف الألفي ليحضر مصطفى بك من محبسه بغثر إسكندرية، ونادى بالأمان في البلد وزيادة وزن الخبز، وأمر بإخراج الغلال المخزونة لتباع على الناس.
وفي ليلة الثلاثاء خامس القعدة حضر مصطفى بك ونزل في بيته أميراً وصنجقاً على عادته كما كان.
وفيه قلد مراد بك مملوكه محمد كاشف الألفي صنجقاً وكذلك مصطفى كاشف الإخميمي صنجقاً أيضاً.
وفي يوم الأحد سابع عشر القعدة حضر عثمان بك الشرقاوي وسليمان بك الأغا وإبراهيم بك الوالي وسليمان بك أبو نبوت، وكان مراد بك أرسل يستدعيهم كما تقدم. فلما حضروا إلى مصر سطنوا بيوتهم كما كانوا على إمارتهم.
وفي أواخره وصل واحد أغا من الدولة وبيده مقرر للباشا على السنة الجديدة فطلب الباشا الأمراء لقراءاته عليهم، فلمع يطلع منهم أحد وأهمل ذلك مراد بك ولم يلتفت إليه.
وفي يوم الجمعة رابع عشر الحجة، رسم مراد بك بنفي رضوان رضوان بك قرابة علي بك الكبير الذي كان خامر على إسمعيل بك وحسن بك الجداوي، وحضر مصر صحبة مراد بك كما تقدم، وانضم إليه وصار من خاصته، فلما خرج إبراهيم بك من مصر أشيع أنه يريد صلحه مع إسمعيل بك وحسن بك، فصار رضوان بك كالجملة المعترضة، فرسم مراد بك بنفيه فسافر من ليلته إلى الإسكندرية.
وفي يوم السبت خامس عشرة أرسل مراد بك إلى الباشا وأمره بالنزول فأنزلوه إلى قصر العيني معزولاً وتولى مراد بك قائمقام وعلق الستور على بابه، فكانت ولاية هذا الباشا أحد عشر شهراً سوى الخمسة أشهر التي أقامها بغثر سكندرية، وكانت أيامه كلها شدائد ومحناً وغلاء.
وفي أواخر شهر الحجة، شرع مراد بك في إجراء الصلح بينه وبين إبراهيم بك فأرسل له سليمان بك الأغا والشيخ أحمد الدردير ومرزوق بك ولده فتهيئوا وسافروا في يوم السبت ثامن عشرينه.
وانقضت هذه السنة كالتي قبلها في الشدة والغلاء وقصور النيل والفتن المستمرة وتواتر المصادرات والمظالم من الأمراء وانتشار أتباعهم في النواحي لجبي الأموال من القرى والبلدان وإحداث أنواع المظالم، ويسمونها مال الجهات ودفع المظالم والفردة، حتى أهلكوا الفلاحين وضاق ذرعهم واشتد كربهم وطفشوا من بلادهم، فحولوا الطلب على الملتزمين وبعثوا لهم المعينين في بيوتهم، فاحتاج مساتير الناس لبيع أمتعتهم ودورهم ومواشيهم بسبب ذلك مع ما هم فيه من المصادرات الخارجة عن ذلك، وتتبع من يشم فيه رائحة الغنى فيؤخذ ويحبس ويكلف بطلب أضعاف ما يقدر عليه، وتوالى طلب السلف من تجار البن والبهار عن المكوسات المستقيلة. ولما تحقق التجار عدم الرد استعوضوا خساراتهم من زيادة الأسعار، ثم مدوا أيديهم إلى المواريث، فإذا مات الميت أحاطوا بموجوده سواء كان له وارث أو لا. وصار بيت المال من جملة المناصب التي يتولاها شرار الناس بجملة من المال يقوم بدفعه في كل شهر، ولا يعارض فيما يفعل في الجزئيات، وأما الكليات فيختص بها الأمير. فحل بالناس ما لا يوصف من أنواع البلاء، إلا من تداركه الله برحمته أو اختلس شيئاً من حقه، فإن اشتهروا عليه عوقب على استخراجه. وفسدت النيات وتغيرت القلوب ونفرت الطباع وكثر الحسد والحقد في الناس لبعضهم البعض. فيتتبع الشخص عورات أخيه ويدلي به إلى الظلم حتى خرب الإقليم وانقطعت الطرق وعربدت أولاد الحرام وفقد الأمن ومنعت السبل إلا بالخفارة وركوب الغرر، وجلت الفلاحون من بلادهم من الشراقي والظلم وانتشروا في المدينة بنسائهم وأولادهم يصيحون من الجوع ويأكلون ما يتساقط في الطرقات من قشور البطيخ وغيره، فلا يجد الزبال شيئاً يكنسه من ذلك واشتد بهم الحال حتى أكلوا الميتات من الخيل والحمير والجمال، فإذا خرج حمار ميت تزاحموا عليه وقطعوه وأخذوه ومنهم من يأكله نيئاً من شدة الجوع، ومات الكثير من الفقراء بالجوع. هذا والغلاء مستمر والأسعار في الشدة، وعز الدرهم والدينار من أيدي الناس وقل التعامل إلا فيما يؤكل وصار سمر الناس وحديثهم في المجال ذكر المآكل والقمح والسمن ونحو ذلك لا غير، ولولا لطف الله تعالى ومجيء الغلال من نواحي الشام والروم لهلكت أهل مصر من الجوع. وبلغ الأردب من القمح ألفاً وثلثمائة نصف فضة، والفول والشعير قريباً من ذلك، وأما بقية الحبوب والأبزار فقل أن توجد. واستمر ساحل الغلة خالياً من الغلال بطول السنة والشون كذلك مقفولة وأرزاق الناس وعلائفهم مقطوعة، وضاع الناس بين صلحهم وغبنهم وخروج طائفة ورجوع الأخرى، ومن خرج إلى جهة قبض أموالها وغلالها. وإذا سئل المستقر في شيء تعلل بما ذكر. ومحصل هذه الأفاعيل بحسب الظن الغالب أنها حيل على سلب الأموال والبلاد وفخاخ ينصبونها ليصيدوا بها إسمعيل بك.
وفي أواخره وصلت مكاتبة من الديار الحجازية عن الشريف سرور ووكلاء التجار خطاباً للأمراء والعلماء بسبب منع غلال الحرمين وغلال المتجر وحضور المراكب مصبرة بالأتربة والشكوى من زيادة المكوسات عن الحد، فلما حضرت قرئ بعضها وتغوفل عنها وبقي الأمر على ذلك.

.رجع لخبر العجلة التي لها رأسان:

وهو أنه لما أرسل إبراهيم بك ولده مرزوق بك غلاماً صغيراً لمصالحة الأمير مراد بك أعطاه هدية ومن جملتها بقرة وخلفها عجلة برأسين، وحضر بهما إلى مصر وشاع خبرها، فذهبت بصحبة أخينا وصديقنا مولانا السيد إسمعيل الوهبي الشهير بالخشاب فوصلنا إلى بيت أم مرزوق بك الذي بحارة عابدين ودخلنا إلى اسطيل بعض السواس، فرأينا بقرة مصفرة اللون مبياض، وابنتها خلفها سواد ولها رأسان، كاملتا الأعضاء وهي تأكل بفم إحدى الرأسين وتشتر بفم الرأس الثانية، فتعجبنا من عجيب صنع الله وبديع خلقته، فكانت من العجائب الغريبة المؤرخة.

.من مات في هذه السنة من أعيان الناس:

مات الشيخ الفقيه الصالح المشارك الشيخ درويش بن محمد بن محمد ابن عبد السلام البوتيجي الحنفي نزيل مصر، حضر دروس كل من الشيخ محمد أبي السعود والشيخ سليمان المنصوري والشيخ محمد الدلجي وغيرهم، وتميز في معرفة فروع الفقه، وأفتى ودرس وكان إنساناً حسناً لا بأس به، توفي في هذه السنة.
ومات العمدة العلامة والرحلة الفهامة المفوه المتكلم المتفقه النحوي الأصولي الشيخ عبد الله بن أحمد المعروف باللبان الشافعي الأزهري أحد المتصدرين في العلماء الأزهرية، حضر أشياخ الوقت كالملوى والجوهري والحفني والصعيدي والشعماوي والدفري وتمهر في الفقه والمعقول وقرأ الدروس وختم الختوم، وتنزل أياماً عند الأمير إبراهيم كتخدا القازدغلي، واشتهر ذكره في الناس وعند الأمراء بسبب ذلك، وتحمل حاله وكان فصيحاً ملساناً مفوهاً يخشى من سلاطة لسانه في المجالس العلمية والعرفية. وسافر مرة إلى اسلامبول في بعض الإرساليات وذلك سنة ست وثمانين عندما خرج علي بك من مصر ودخل محمد بك وكان بصحبة أحمد باشجاويش أرنؤد.
ومات العلامة الشيخ عبد الرحمن جاد الله البناني المغربي، وبنانة قرية من قرى منستير بأفريقية، ورد إلى مصر وجاور بالجامع الأزهر وحضر دروس الشيخ الصعيدي والشيخ يوسف الحفني والسيد محمد البليدي وغيرهم من أشياخ العصر، ومهر في المعقول، وألف حاشية على جمع الجوامع اختصر فيها سياق بن قاسم، وانتفع بها الطلبة، ودرس برواق المغاربة وأخذ الحديث عن الشيخ أحمد الإسكندري وغيره، وتولى مشيخة رواقهم مراراً بعد عزل السيد قاسم التونسي وبعد عزل الشيخ أبي الحسن القلعي، فسار فيها سيراً حسناً. ولم يتزوج حتى مات. ومن آثاره ما كتبه على المقامة التصحيفية للشيخ عبد الله الأدكاوي. ولم يزل مواظباً على التدريس ونفع الطلبة حتى تعلل أياماً وتوفي ليلة الثلاثاء ختام شهر صفر.
ومات الشيخ الفاضل العلامة عبد الرحمن بن عمر الأجهوري المالكي المقرى سبط القطب الخضيري، أخذ علم الأداء عن كل من الشيخ محمد بن علي السراجي إجازة في سنة 1156، وعن الشيخ عبد ربه ابن محمد السجاعي إجازة في سنة أربع وخمسين، وعن شمس الدين السجاعي في سنة ثلاث وخمسين، وعن عبد الله بن محمد بن يوسف القسطمطيني جود عليه إلى قوله المفلحون بطريقة الشاطبية، والتيسير بقلعة الجبل حين ورد مصر حاجاً في سنة ثلاث وخمسين، وعلى الشيخ أحمد بن السماح البقري والشهاب الإسقاطي وآخرين، وأخذ العلوم عن الشبراوي والعماوي والسجيني والشهاب النفراوي والشمس الحفني وأخيه الشيخ يوسف والشيخ الملوي، وسمع الحديث من الشيخ محمد الدفري والشيخ أحمد الإسكندراني محمد بن محمد الدقاق، وأجازه الجوهري في الأحزاب الشاذلية وكذا يوسف بن ناصر، وأجازه السيد مصطفى البكري في الخلوتية والأوراد السرية، ودخل الشام فسمع الأولية على الشيخ مصطفى الخليجي، ومكث هناك مدة، ودخل حلب فسمع من جماعة وعاد إلى مصر، فحضر على السيد البليدي في تفسير البيضاوي بالأزهر وبالأشرافية، وكان السيد يعتني به ويعرف مقامه. وله سليقة تامة في الشعر وله مؤلفات منها الملتاذ في الأربعة الشواذ، ورسالة في وصف أعضاء المحجوب نظماً ونثراً وشرح تشنيف السمع ببعض لطائف الوضع للشيخ العيدروس شرحين كاملين قرظ عليهما علماء عصره. ولا زال يملي ويفيد ويدرس ويجيد ودرس بالأزهر مدة في أنواع الفنون، وأتقن العربية والأصول والقراءات، وشارك في غيرها، وعين للتدريس في السنانية ببولاق، فكان يقرأ فيها الجامع الصغير ويكتب على أطراف النسخة من تقاريره المبتكرة ما لو جمع لكان شرحاً حسناً. وتوفي المترجم رحمه الله تعالى في سابع عشرين رجب.
ومات الأجل المبجل والعمدة المفضل الحسيب النسيب السيد محمد بن أحمد بن عبد اللطيف بن محمد بن تاج العارفين بن أحمد بن عمر ابن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن علي بن حسين بن محمد بن شرشيق بن محمد ابن عبد العزيز بن عبد القادر الحسيني الجيلي المصري ويعرف بابن بنت الجيزي، من بيت العز والسيادة والكرامة والمجادة، جدهم تاج العارفين، تولى الكتابة بباب النقابة، ولا زالت في ولده مضافة لمشيخة السادة القدرية ومنزلهم بالسبع قاعات ظاهر الموسكي مشهور بالثروة والعز، وكان المترجم اشتغل بالعلم حتى أدرك منه حظاً وافراً، وصار له ملكة يقتدر بها على استحضار النكات والمسائل والفروع، وكان ذا وجاهة وهيبة واحتشام وانجماع عن الناس، ولهم منزل ببركة جناق يذهبون إليه في أيام النيل وبعض الأحيان للنزاعة، توفي رحمه الله تعالى في هذه السنة وتولى منصبه أخوه السيد عبد الخالق.
ومات السيد الفاضل السالك على بن عمر بن محمد بن علي بن أحمد بن عبد الله بن حسن بن أحمد بن يوسف بن إبراهيم بن أحمد ابن أبي بكر بن سليمان بن يعقوب بن محمد بن القطب سيدي عبد الرحيم القناوي الشريف الحسيني، ولد بقنا وقدم مصر وتلقن الطريقة عن الأستاذ الحفني، ثم حبب إليه السياحة فورد الحرمين، وركب من جدة إلى سورت ومنها إلى البصرة وبغداد، وزار من بهما من المشاهد الكرام، ثم دخل المشهد فزار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم دخل جراسان ومنها إلى غزنين وكابل وقندهار، واجتمع بالسلطان أحمد شاه فأكرمه وأجزل له العطاء، ثم عاد إلى الحرمين وركب من هناك إلى بحر سيلان، فوصل إلى بنارس واجتمع بسلطانها، وذهب إلى بلاد جاوة ثم رجع إلى الحرمين، ثم سار إلى اليمن ودخل صنعاء واجتمع بإمامها، ودخل زبيد واجتمع بمشايخها وأخذ عنهم واستأنسوا به وصار يعقد لهم حلق الذكر على طريقته، وأكرموه، ثم عاد إلى الحرمين ثم إلى مصر، وذلك سنة اثنتين وثمانين، وكانت مدة غيبته نحو عشرين سنة. ثم توجه في آخر هذه السنة إلى الصعيد واجتمع بشيخ العرب همام رحمه الله تعالى فأكرمه إكراماً زائداً، ودخل قنا فزار جده ووصل رحمة ومكث هناك شهوراً، ثم رجع إلى مصر وتوجه إلى الحرمين من القلزم، وسافر إلى اليمن وطلع إلى صنعاء، ثم عاد إلى كوكبان، وكان إمامها إذ ذاك العلامة السيد إبراهيم بن أحمد الحسيني، وانتظم حاله وراج أمره وشاع ذكره، وتلقن منه الطريقة جماعة من أهل زبيد، واستمال بحسن مذاكرته ومداراته طائفة من الزيدية ببلدة تسمى زمرمر. وهي بلدة باليمن بالجبال، وهم لا يعرفون الذكر ولا يقولون بطرق الصوفية، فلم يزل بهم حتى أحبوه، وأقام حلقة الذكر عندهم وأكرموه، ثم رجع من هناك إلى جدة وركب من القلزم إلى السويس. ووصل مصر سنة أربع وتسعين فنزل بالجمالية فذهبت إليه بصحبته شيخنا السيد مرتضى وسلمنا عليه، وكنت أسمع به ولم أره قبل ذلك اليوم، فرأيت منه كمال المودة وحسن المعاشرة وتمام المروءة وطيب المفاكهة، وسمعت منه أخبار رحلته الأخيرة وترددنا عليه وتردد علينا كثيراً وكان ينزل في بعض الأحيان إلى بولاق، ويقيم أياماً بزاوية علي بك بصحبة العلامة الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ بدوي الهيتمي وحضر إلى منزلي ببولاق مراراً باستدعاء وبدون استدعاء، ثم تزوج بمصر وأتى إليه ولده السيد مصطفى من البلاد زائراً، وما زال على حاله في عبادة وحسن توجه إلى الله مع طيب معاشرة وملازمة الأذكار وصحبة العلماء الأخيار، حتى تمرض بعلة الاستسقاء مدة، حتى توفي ليلة الثلاثاء غرة جمادى الأولى من السنة، وصلي عليه بالأزهر ودفن بالقرافة بين يدي شيخه الحفني. وكان ابنه غائباً فحضر بعد مدة من موته، فلم يحصل من ميراثه إلا شيئاً نزراً، وذهب ما جمعه من سفر الله حيث ذهب.
ومات الوجيه النبيل والجليل الأصيل السيد حسين باشيجاويش الأشراف بن إبراهيم كتخدا تفكجيان بن مصطفى أفندي الخطاط، كان إنساناً حسناً جامعاً للفضائل واللطف والمزايا، واقتنى كتباً كثيرة في الفنون وخصوصاً في التاريخ، وكان مألوف الطباع ودوداً شريف النفس مهذب الأخلاق، فلم يخلف بعده مثله رحمه الله تعالى.
ومات الأمير محمد كتخدا أباظة وأصله من مماليك محمد جربجي الصابونجي، ولما مات سيده كما تقدم تركه صغيراً فخدم ببيتهم ثم عند حسين بك المقتول، ولم يزل ينمو ويترقى في الخدم حتى تقلد كتخدائية محمد بك أبي الذهب، فسار فيها بشهامة وصرامة، ولم يزل مبجلاً بعده في أيام مماليكه معدوداً من الأمراء، وله عزوة مماليك وأتباع، حتى تعلل ومات في هذه السنة.
ومات التاجر الخير الصدوق الصالح الحاج عمر بن عبد الوهاب الطرابلسي الأصل الدمياطي، سكن دمياط مدة وهو يتجر، واختص بالشيخ الحفني، فكان يأتي غليه في كل عام يزوره ويراسله بالهدايا ويكرم من يأتي من طرفه، وكان منزله مأوى الوافدين من كل جهة، ويقوم بواجب إكرامهم، وكان من عادته أنه لا يأكل مع الضيوف قط إنما يخدم عليهم ما داموا يأكلون، ثم يأكل مع الخدم، وهذا من كمال التواضع والمروءة. وإذا قرب شهر رمضان وفد عليه كثيرة من مجاوري رواق الشوام بالأزهر وغيره، فيقيمون عنده حتى ينقضي شهر الصوم في الإكرام، ثم يصلهم بعد ذلك بنفقة وكساوي، ويعودون من عنده مجبورين. وفي سنة ثلاث وثمانين حصلت له قضية مع بعض أهل الذمة التجار بالثغر فتطاول عليه الذمي وسبه، فحضر إلى مصر وأخبر الشيخ الحفني، فكتبوا له سؤالاً في فتوى وكتب عليه الشيخ جواباً وأرسله إلى الشيخ الوالد، فكتب علي جواباً وأطنب فيه ونقل من الفتاوى الخيرية جواباً عن سؤال رفع للشيخ خير الدين الرملي في مثل هذه الحادثة بحرق الذمي ونحو ذلك، وحضر ذلك النصراني في أثر حضور الحاج عمر خوفاً على نفسه وكان إذ ذاك شوكة الإسلام قوية، فاشتغل مع جماعة بمعونة كبار النصارى بمصر، بعد أن تحققوا حصول الانتقام وفتنوهم بالمال، فأدخلوا على شكوكا وسبكوا الدعوى في قالب آخر، وذلك أنه لم يسبه بالألفاظ التي ادعاها الحاج عمر وأنه بعد التسابب صالحه وسامحه، وغيروا صورة السؤال الأول بذلك، وأحضروه إلى الوالد فامتنع من الكتابة عليه، فعاد به الشيخ حسن الكفراوي فحلف لا يكتب عليه ثانياً أبداً، وتغير خاطر الحاج عمر من طرف الشيخ واختل اعتقاده فيه، وسافر إلى دمياط ولم يبلغ قصده من النصراني، ومات الشيخ بعد هذه الحادثة بقليل. وانتهت رياسة مصر إلى علي بك وارتفع شأن النصارى في أيامه بكاتبه المعلم رزق والمعلم إبراهيم الجوهري، فعملوا على نفي المترجم من دمياط، فأرسلوا له من قبض عليه في شهر رمضان ونهبوا أمواله من حواصله وداره، ووضعوا في رقبته ورجليه القيد، وأنزلوه مهاناً عرياناً مع نسائه وأولاده في مركب، وأرسلوه إلى طرابلس الشام، فاستمر بها إلى أن زالت دولة علي بك واستقل بإمارة مصر محمد بك، وأظهر الميل إلى نصرة الإسلام، فكلم السيد نجم الدين الغزي محمد بك في شأن رجوعه إلى دمياط، فكان أن يجيب لذلك وكنت حاضراً في ذلك المجلس والمعلم ميخاييل الجمل والمعلم يوسف بيطار وقوف أسفل السدلة يغمزان الأمير بالإشارة في عدم الإجابة، لأنه من المفسدين بالثغر، ويكون السبب في تعطيل الجمارك، فسوف السيد نجم الدين بعد أن كان قرب من الإجابة. فلما تغيرت الدولة وتنوسيت القضية وصار الحاج عمر كأنه لم يكن شيئاً مذكوراً، رجع إلى الثغر وورد علينا مصر وقد تقهقر حاله وذهبت نضارته وصار شيخاً هرماً، ثم رجع إلى الثغر واستمر به حتى توفي في السنة، وكان له مع الله حال يداوم على الإذكار ويكثر من صلاة التطوع ولا يشتغل إلا بما يهمه، رحمه الله تعالى.
ومات الأمير الجليل إبراهيم كتخدا البركاوي وأصله مملوك يوسف كتخدا عزبان البركاوي، نشأ في سيادة سيده وتولى في مناصب وجاقهم، وقرأ القرآن في صغره وجود الخط وحبب إليه العلم وأهله. ولما مات سيده كان هو المتعين في رئاسة بيتهم دون خشداشينه، لرئاسته وشهامته، ففتح بيت سيده وانضم إليه خشداشينه وأتباعه، واشترى المماليك ودربهم في الآداب والقراءة وتجويد الخط، وأدرك محاسن الزمن الماضي. وكان بيته مأوى الفضلاء وأهل المعارف والمزايا والخطاطين، واقتنى كتباً كثيرة جداً في كل فن، وعلم حتى أن الكتاب المعدوم إذا احتيج إليه لا يوجد إلا عنده، ويعير للناس ما يرومونه من الكتب للانتفاع في المطالعة والنقل، وبآخره اعتكف في بته ولازم حاله وقطع أوقاته في تلاوة القرآن والمطالعة وصلاة النوافل، إلى أن توفي في هذه السنة، وتبددت كتبه وذخائره، رحمه الله تعالى.